الإخوان المسلمون في سورية

العلامة الشيخ محمد الحامد رحمه الله تعالى

الشيخ محمد الحامد من الرجال الذين تعتزّ بهم سورية، بل يعتزّ بهم المسلمون في كل مكان. إنه من الذين اجتمع فيهم من جوانب الفضل ما يندر أن يجتمع في إنسان، فقد جمع العلم والتقى، والزهد والشجاعة، والتصوّف الصافي ومحاربة البدع، والفكر الثاقب، والعاطفة الجياشة، والهيبة والتواضع، والحياء والأدب الجم والفصاحة.
ولقد كان من القلائل الذين يقولون الحق لا يخافون في الله لومة لائم.
وكان ذا ورعٍ تسير بحكاياته الركبان!
وكان ذا غِيرة على دين الله، وحرْص على نشر العلم وتنشئة الأجيال وتقويم السلوك، والنصح لكل مسلم.
من يعرفه يقول: إنه رجل من السلف الصالح يعيش في هذا العصر.
*****
ولد الشيخ محمد بن محمود الحامد سنة 1328هـ (1910م) من أسرة فقيرة ذات اليد، غنية بالعلم والصلاح والأدب. فوالده محمود الحامد كان عالماً أديباً نقشبندياً، ووالدته من آل الجابي، وخاله سعيد الجابي من علماء حماة، وجدُّه مصطفى الجابي عالم كذلك وشاعر، وأخوه بدر الدين شاعر.
ومنذ طفولته الأولى، وهو في السادسة من عمره توفي والده، ثم توفيت أمه في السنة نفسها، فذاق مرارة اليتم والفقر، لاسيما وأن الوقت كان أيام الحرب العالمية الأولى حيث الغلاء الفاحش، وانتشار المجاعة والأوبئة.
ويوم أن ذاق اليتم كان عُمُرُ أخيه الكبير بدرِ الدين خمسةَ عشر عاماً فحسب. أما أخوه الأصغر فهو عبد الغني.
   ففي أجواء الفقر المدقع، واليُتم القاسي كانت رحمةُ الله ترعى هذا الغلام وتهيئه ليكون العالِمَ العامل، التقيَّ المجاهد. فما إن أتمّ الدراسة الابتدائية بتفوق باهر سنة 1922 حتى التحق بالمدرسة الإعدادية، ثم تركها ليدرس في دار العلوم الشرعية التي افتُتحت آنئذ، في عام 1924م، وكان إلى ذلك يحضر حلقات العلم في المساجد، بجدٍّ ودأب عجيبين، حتى بلغ عدد الحلقات العلمية التي كان يحضرها تسع حلقات في اليوم!!
وبعد أن أنهى دراسته في حماة تحوَّل إلى الثانوية الشرعية في حلب، وكانت تسمى المدرسة الخسروية، نسبة للوالي العثماني خسرو باشا الذي أمر ببنائها، فكان ذا نبوغ لَفَتَ أنظار علمائها، حتى قال فيه أحدهم، وهو الشيخ أحمد الشماع: “بحر لا تَنْزَحُه الدلاء”.
وحَبّب الله إليه العلم فكان لا يقتصر على الكتب المدرسية المقررة، بل يقبل بشغف عظيم على كتب العلم يَحُلّ عويصها، ويتمثل معارفها، ولقد قال عن نفسه: “… وإني أحمد الله على توفيقه وتيسيره إياي للتوسع العلمي، ووضْعِه الشَّغَف به في قلبي، حتى إني لأوثر العلم على اللذائذ المادية التي يقتتل الناس عليها. ولو أنّي خُيِّرت بين المُلْك والعلم، لاخترتُ العلم على المُلك والسلطان”.
ثم إنه سافر إلى مصر سنة 1938 ليتلقى التعليم الجامعي في الأزهر. ولقد استوحش في بداية الأمر لما رأى مظاهر الحياة الغربية هناك… ثم إنه تعرّف إلى بعض أهل الفضل والصلاح فهدأت نفسه، وأقام صداقاتٍ حميمةً، وعُرف بين أصحابه وأقرانه باسم الشيخ الحَمَوي.
وكان دخول الأزهر يحتاج إلى اجتياز امتحان، فلما اجتاز ذلك الامتحان، قال له بعض الشيوخ: إنك عالم. لا تحتاج للدراسة فيه! (أي الأزهر).

الشيخ محمد الحامد والإمام حسن البنا

وفي مصر تعرّف إلى الإمام حسن البنّا رحمه الله تعالى، وتحوّلت هذه المعرفة إلى علاقة حميمة عالية بينهما، يتحدث عنها الشيخ قائلاً:
“والذي أثّر في نفسي تأثيراً من نوع خاص، وله يدٌ في تكويني الشخصي، سيدي وأخي في الله وأستاذي، الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله وأغدق عليه غيوث الإحسان والكرم، صحِبتُهُ في مصر سِنين، وحديثي عنه لو بَسَطْتُهُ، لكان طويل الذيل، ولكانت كلماتُه، قِطَعَاً من قلبي، وأفلاذاً من كبدي، وحُرَقاً من حرارة روحي، ودموعاً مُنْهَلّة منسابة تشكّل سيلاً من فاجع الألم وعظيم اللوعة.
ولكنني أكتفي بالإيجاز من الإطناب، وبالاختصار من التطويل، وقد بَكَيته كثيراً بعد استشهاده، على نأي  الدار وشَطّ المزار، ولا أزال أذكره حتى ألقاه في زمرة الصالحين إن شاء الله تعالى وتبارك.
إنه أخي قبل إخوتي في النسب. ولما وافاني نبأ اغتياله قلتُ: إن موتَ ولديّ -ولم يكن لي غيرُهُما حينئذ- أهون عليّ من وفاة الأستاذ المرشد.
وكنتُ رأيت فيما يرى النائم ليلة قُتل، ولا علم لي بالذي حصل، رأيت أننا في معركة مع اليهود، وقد بدأ التقهقر في جُندنا، حتى إني لأمشي منحنياً لئلا يصيبَني رصاصهم، فاستيقظتُ واستعذت بالله من شر هذه الرؤيا. وفي النهار ألقى عليّ بعض الناس الخبر، فكان وقعه أشدّ من شديد، وكان تأويلَ رؤياي.
إني أقولها كلمة حرة، ولا بأس بروايتها عني، أقول: إن المسلمين لم يَرَوا مثل حسن البنا من مئات السنين، في مجموع الصفات التي تحلّى بها، وخَفَقَتْ أعلامُها على رأسه الشريف. لا أنكر إرشاد المرشدين، وعِلْم العالمين، ومعرفة العارفين، وبلاغة الخطباء والكاتبين، وقيادة القائدين، وتدبير المدبّرين، وحنكة السائسين، لا أنكر هذا كله عليهم، من سابقين ولاحقين، لكن هذا التجمع لهذه المتفرّقات من الكمالات، قلّما ظَفِرَ به أحد كالإمام الشهيد رحمه الله.
لقد عرفه الناس وآمنوا بصدقه، وكنتُ واحداً من هؤلاء العارفين به، والذي أقوله فيه قولاً جامعاً: هو أنه كان بكليّته، بروحه وجسده، بقلبه وقالبه، بتصرفاته وتقلبه، كان لله، فكان الله له، واجتباه وجعله من سادات الشهداء والأبرار”. انتهى كلام الشيخ الحامد في الإمام البنا، رحمهما الله تعالى.

في حماة، بعد عودته من مصر

عاد الشيخ محمد الحامد من مصر في سن الرابعة والثلاثين، وتزوج بعدها بفترة يسيرة، أي في العام 1944، ليتَسَلّم مهام التدريس في جامع السلطان في حماة بشكل دائم، وكان قبلها يتردد عليه، كلما عاد من مصر في الإجازات، كما تسلّم بعد رجوعه، تدريس مادة التربية الإسلامية في “التجهيز الأولى” -كما كانت تسمى- ثم عُدّل اسمها إلى “ثانوية ابن رشد” فمكث فيها مدرّساً تخرجت على يديه الأجيال متتابعة حتى تقاعد عن التدريس الحكومي قبل وفاته بأقل من سنة.

 أبرز شيوخه

كان شغف الشيخ الحامد – رحمه الله – يدفعه إلى مزاحمة العلماء بالرُّكَب، كما يقال، فقد تتلمذ في حماة على خاله الشيخ سعيد الجابي، وعلى الشيخ محمد سعيد النعساني مفتي حماة، والشيخ أحمد المراد أمين الإفتاء وغيرهم، كما تتلمذ في حلب في أثناء دراسته في المدرسة الخسروية- على الشيخ أحمد الزرقا والشيخ أحمد الكردي والشيخ عيسى البيانوني والشيخ إبراهيم السلقيني والشيخ أحمد الشماع والشيخ نجيب سراج الدين وغيرهم.

مرحلة الإنتاج المستمر والعطاء المتجدّد

كانت المدة التي قضاها بعد رجوعه من مصر حتى توفي، هي الفترةَ الذهبيةَ في إنتاجه، وكان لها مظاهرُ ثلاثة:
أولها: ثباته في وجه مظاهر الإلحاد والعلمانية التي خلّفها المستعمر قبل رحيله.
ثانيها: كتاباته في شؤون شتى، بياناً لحكم شرعي، ونصيحة للأمة، وجلاءً للحقيقة.
الثالث: تكوينه جيلاً جديداً مؤمناً واعياً جريئاً مستقيماً.

ثباته في وجه الإلحاد والعلمانية

لم  يَخْرُجِ المستعمرُ حتى سلّم زِمامَ الأمور لمن يطمئن إلى أنهم يُتابعون طريقه في محاربة الإسلام وأهله، سواءٌ كانت حرباً معلَنة شعواء، أو كانت حرباً تتستّر وراء مظاهر خدّاعة، من مثل قولهم: إنهم مسلمون ويعتزّون بالإسلام، في الوقت الذي يرفضون فيه سيادة شريعة الإسلام، ويُحاربون من يدعو إلى أن يكون القرآن دستورَ الأمة، وينشرون الفساد، ويُقرّبون المفسدين.
ولقد كان حظُّ حماةَ أن برز فيها المد الاشتراكي بقيادة أكرم الحوراني، الذي اجتذب إليه الأقلياتِ الطائفية التي تتركز في بعض أرياف المحافظة، وقلّة من الفاسدين من أبناء المدينة… وكان أن أخذ الشيخ محمد الحامد -رحمه الله تعالى-على عاتقه مهمّة التصدي للاشتراكيين، سواء فيما يتعلق بالاحتكام إلى غير الله -وهو من أمور العقيدة- أو ما يتعلق بالمذاهب الاقتصادية والاجتماعية عن هذا الاحتكام، أو ما يتعلق بالمظاهر السلوكية والأخلاقية الهابطة.
وقد كانت وقفة الشيخ، رحمه الله، وقفةً عظيمة، لم يُعاضِدْه فيها إلا القليلُ من علماء البلد، في الوقت الذي تعرّض فيه للكثير من الأذى والتهديدات، فما وَهَنَ لما أصابه في سبيل الله، وما ضَعُف وما استكان، بل كان يقول ما يعتقد أنه الحقّ، على منبر المسجد، وفي قاعات التدريس، وفي المحافل العامة.
كان – رحمه الله – يَحمِل همّ الإسلام والأمة الإسلامية في قلبه، فكلما رأى فتنة في الفكر، أو جهلاً بالأحكام الشرعية، أو شبهة علقت بالأذهان… قام يتصدى لها عبر مقالات صحفية ورسائل علمية.. فكتب عن المرأة، وعن المسكرات، وعن الغناء، وكتب بيانات مختلفة عن الإسلام ومصادره وكشف كثيراً من الشبهات، وقد جمع معظم هذه الرسائل في كتابه “ردود على أباطيل”. على أن أكبرَ بحث وأهمَّه هو كتابُه “نظرات في كتاب اشتراكية الإسلام” يردّ فيه على كتاب “اشتراكية الإسلام” للدكتور مصطفى السباعي رحمه الله.
وقد يتبادر إلى الذهن أن الشيخ رحمه الله نال من شخصية الدكتور السباعي واتّهمه في علمه أو في دينه، أو شنّع عليه… كلا، كلا. إنه ما فتئ في مقدمة الكتاب وفي كل فصل من فصوله يُثني على الدكتور السباعي ويمتدحه، ويبيّن الإضاءات والتألقات في الكتاب الذي يردّ عليه! ويبيّن إلى جانب ذلك الآراء التي يرى أن الصواب فيها قد جانبَ الدكتور السباعي.
إنه كتاب فريد في بابه، سواءٌ من حيث التمحيص العلمي، أو من حيث الموضوعيةُ والتجرّد، أو حيث الأدبُ الرفيع الذي يليق بأخوين عالمين كبيرين حبيبين يتحاوران.
وقد قابل الدكتورُ السباعيُّ رحمه الله المقالاتِ التي كتبها الشيخ الحامد (والتي جُمعت فيما بعد في الكتاب المذكور) بما يليق بها من احترام وتقدير فنشرها جميعاً في مجلته “حضارة الإسلام”.
 وإلى جانب ذلك كله لم يألُ جهداً في تبني قضايا الجهاد كلما اقتضى الأمر، سواء في حرب فلسطين سنة 1948 أو في أيام العدوان الثلاثي على مصر سنة 1952، أو أيام ما سمي بنكسة حزيران 1967، أو غيرها من المناسبات.

تربية جيل مؤمن

لقد كان الشيخ رحمه الله يعلم أن إعداد الرجال الذين يحملون الفكرة، ويَثْبُتُون عليها، ويُنافحون عنها… هو الأساس الذي  لا محيد عنه في انتصار الفكرة، لذلك ما فتئ يبذل الجهود في تربية أبناء شعبه على الإيمان والوعي والصلاح والجهاد:
كان يدرِّس في ثانويات حماة، ويورّث الأجيال قيم الإسلام وتوجيهاته.
وكان يُعطي مساء كل يوم (سوى ليلة الجمعة) درساً في جامع السلطان يتناوب بين تفسير القرآن الكريم والفقه والحديث (أو السيرة والمواعظ والرقائق). وكانت دروسُه بستاناً جَنِيَّ الثمار يَخْرُجُ منه كل تلميذ بفوائد روحية وعلمية وفكرية وسلوكية… بما يناسب حاله وحال الظروف العامة وموضوع الدرس.
وكان يُعطي صباح كل يوم درساً في غرفة في “مسجد الجديد”، يحضر هذا الدرس بضعة تلاميذ – أو يزيدون – من طلاب العلم والعلماء، فيكون الدرس غنيّاً بالبحث والتحقيق، واللفتات اللغوية والبلاغية.

مرض الشيخ ووفاته

يربط الشيخ محمود بن الشيخ محمد الحامد، بين أحداث حماة (سنة 1964م) وبين مرض والده بعدئذ ثم وفاتِه، فيقول ما خلاصته:
كان لأحداث عام (1384هـ- 1964م) أثرٌ عظيم على صحة والدي. ابتدأتِ الحوادث باستفزازات وتحديات من بعض العلمانيين، تبِعَها ردُّ فعل من الشباب المسلم، واعتصم فيها الشيخ مروان حديد وجمْعٌ من إخوانه في جامع السلطان.. ثم طوّقت القواتُ العسكرية المسجد وقصفته بالمدافع وهدَمَتْه فوق المصلين وسقطت مئذنته واستشهد بعض من كان فيه، واعتُقل كثيرون ثم أُفرج عن بعضهم، وحُكم على بعضهم بالإعدام والسجن المؤبد. ثم طَلَبَ رئيس البلاد آنذاك الفريقُ أمين الحافظ وساطةَ والدي لحل المشكلة وتهدئة الحال، فتوجّه والدي مع عدد من العلماء والوجهاء لمقابلة الرئيس، وألقى والدي كلمة، فيها موعظةٌ، وفيها إثارة للنخوة والحميّة، فاستجاب الرئيس، وأصدر عفواً عامّاً عن جميع المعتقلين، وأمر بإعادة بناء المسجد على حساب الجيش… وانتهت المشكلة، ولم يمكث أحد في السجن أكثَرَ من شهرين!!
لكن المرض بدأ يدِبّ في جسم والدي ويستشري، فحدث معه تشمّع في الكبد، وتفاقَمَ حتى يقيء الدم في نوبات حادة، وقد تسارع عدد من الإخوان للتبرع بالدم تعويضاً له عما يفقده، لكنّ أَجَلَ الله إذا جاء لا يؤخر.
كان مروان حديد واحداً من تلامذة والدي الذين أخذوا من توجيهاته الجانب الجهادي وغلّبوه على غيره، فضلاً عن تأثر مروان بجهاد الإخوان المسلمين في فلسطين.
فلما اعتصم مروان ومن معه في المسجد وحَدَثَ ما ذكرنا، تأثر والدي كثيراً، وبكى على هؤلاء الشباب الذين صاروا في السجون، وراح يدعو لهُمُ اللهَ بالفرج القريب، حتى وفّقه الله واستجاب له.
ومنذ ذلك اليوم لم تَعُدْ صحة والدي على ما يرام. ولما اشتد به المرض ذهب إلى لبنان للعلاج وأجريت له عملية جراحية ثم أُعيد إلى حماة فمكث ثلاثة أيام ثم فاضت روحه ليلة التاسع عشر من صفر بعد العشاء بثلث ساعة، وكان ذلك عام 1389هـ الموافق لمساء 5 من أيار 1969م.
اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنّا بعده، واغفر لنا وله، وارفع مقامه عندك في أعلى عليين.

محمد عادل فارس