الإخوان المسلمون في سورية

الكُنُوزُ الإيمانيةُ والشرعيةُ والأخلاقيةُ لسورة الحُجُرات

 

بقلم: الدكتور محمد بسام يوسف

 

الكَنْـزُ الثالث: الأدبُ مع رسولِ الله

 

– بعد الآية الكريمة الأولى التي تحدّثت عن الأصل العام الذي يضبط حياة المسلم (في التلقي عن الله عزّ وجلّ ورسوله صلى الله عليه وسلم).. جاءت الآيات الكريمة التالية تتحدّث عن: الآداب الواجبة على الأمة تجاه نبيّها صلى الله عليه وسلم، الذي يتلّقون منه منهجهم ودينهم:

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (الحجرات 2).. أي:

 

– يا أيها الذين آمنوا: إذا كلّمتم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فالتزموا الأدب الكامل، واخفضوا أصواتكم ولا ترفعوها فوق صوته، وحين مخاطبته لا تجهروا بالقول كما يجهر بعضكم لبعض، ولا تخاطبوه باسمه وكنيته، بل خاطبوه بما هو أهل له، وبما يميّز مقامه عن مقامكم.. لأنكم إن فعلتم، أي إن خاطبتموه باسمه وكنيته ورفعتم أصواتكم فوق صوته.. فقد يسوقكم ذلك إلى الاستخفاف بمن يبلّغكم رسالة الله عزّ وجلّ، وبالتالي إلى الاستخفاف بالرسالة ذاتها، وهذا قد يؤدي إلى بطلان ثواب أعمالكم وضياعها دون أن تدروا أو تشعروا بهذا المنزلق الخطير، الذي قد يوصلكم إلى الكفر المحبِط للعمل.. إنه تحذيرٌ وتخويفٌ للمؤمنين من اتباع ذلك السلوك.

 

(إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) (الحجرات 3).

 

– أما الذين يغضّون أصواتهم ويخفضونها في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد هيأ الله قلوبهم لتلقي الهبة العظيمة والجائزة الكبيرة منه عزّ وجلّ، وهي هبة التقوى، التي ستؤدي في النتيجة إلى الخوف منه سبحانه، وإلى الإنابة إليه، ثم إلى استحقاق مغفرته جلّ وعلا واستحقاق أجره العظيم الذي يؤدي إلى الجنة.. إنه ترغيبٌ عميقٌ بعد تحذيرٌ مخيف!..

 

(إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الحجرات 4 و5).

 

– ثم أشارت الآيات الكريمة إلى حادثٍ وقع مع وفد بني تميم (في عام الوفود)، حين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا أعراباً جُفاةً، فنادوا من وراء حجرات النبيّ عليه الصلاة والسلام، المطلّة على المسجد النبويّ الشريف: يا محمد!.. اخرج إلينا!.. فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الجفوة وهذا الإزعاج: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ).. لأنهم لم يبلغوا في صفاتهم العقلية ما يدلّهم على كيفية التعامل مع الذي يبلّغ رسالة الله عزّ وجلّ، ولم يتّبعوا أدب العاقلين الناضجين في التعامل مع الناس.
لقد كان الأجدر بهم أن ينتظروا ويصبروا حتى تخرجَ إليهم، فذلك أفضل لهم عند الله وعند الناس، لما فيه من مراعاةٍ للأدب في مقام النبوّة.. ولكن الله عزّ وجلّ يقول بعد ذلك: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، وهو ترغيب بالتوبة والإنابة (الرجوع) إليه، والعودة إلى الأصول في التعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الترغيب في الرحمة والمغفرة، إذ اقتصر قول الله عزّ وجلّ على تحذيرهم وتقريعهم، ولم ينزل العقاب عليهم.. مراعاةً لطبيعتهم القاسية التي تتمتع بالجفاء.

 

كيف امتثل المؤمنون من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآيات؟!..

 

– منهم مَن أقسم ألا يكلّم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إلا سرّاً (أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه).. ومنهم من حرص على خفض صوته حتى يستفهمه رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ومنهم مَن بقي خائفاً وَجِلاً من أن يَحبَطَ عملُهُ لأن صوته جهورياً حاداً (ثابت بن قيس).. ومنهم.. ومنهم.

 

– في صلح الحديبية، يقول مفاوض قريش (عروة بن مسعود الثقفي): (والله ما تنخّم رسول الله نخامةً إلا وقعت في كفِّ رجلٍ منهم (يقصد الصحابة).. ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه.. وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضوئه (أي الماء الناتج عن الوضوء).. وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده..).. (والله لقد وفدتُ على قيصر في مُلكه.. وعلى كسرى في مُلكه.. وعلى النجاشيّ في مُلكه.. والله ما رأيت مَلِكاً قطّ، يُعظّمه أصحابه مثل ما يعظِّم أصحابُ محمدٍ محمداً)!..

 

فلنتأمّل، ولنتدبّر، وليكن الصحابة رضوان الله عليهم قدوتنا!..

 

لنتدبّر في الدروس والعظات المستوحاة من الآيات الكريمة

 

1- وجوب الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حياته وحضرته.. وبعد مماته، وذلك مع سنّته وأحاديثه وسيرته.

 

2- الصغائر قد تجرّ إلى الكبائر، والإساءة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكبائر التي قد تؤدي إلى الكفر المحبِط للعمل.

 

3- إنّ مما يُرتَكَب من الذنوب.. ما يذهب بثواب الأعمال، من غير أن يدري المخطئ أحياناً أبعاد عمله المسيء الذي يرتكبه!.. لذلك علينا مراقبة أعمالنا وأقوالنا جيداً، كي لا نقع بالخطأ والذنب الذي يودي بصالحات أعمالنا (وتحسبونَه هيّناً وهو عندَ اللهِ عظيم)!..

 

4- إنّ الأدب يدل على التمتع بالعقل، فمن كان مؤدّباً فهو عاقل، ومن جُرِحَ أدبه فهو ناقص العقل.

 

5- الأدب والتأدّب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.. يقتضي التأدّب مع العلماء المؤمنين المخلصين، الذين يعملون لإقامة شرع الله، وللدفاع عن حُرُماتِه.. فإنهم ورثة الأنبياء.. وكذلك التأدّب مع كل ذي شأنٍ من أصحاب العلم والفكر، الذين يرومون رفعة هذه الأمة الإسلامية، ويعملون للدفاع عنها وعن دينهم، ويجتهدون في دفع الخبث والشبهات عنها، وفي تعرية أعدائها والدخلاء عليها وعلى منهجها الإسلاميّ القويم.

 

* * *
من أهم المراجع :
(تفسير ابن كثير)، و(في ظلال القرآن) للشهيد سيد قطب، وكتاب (البيّنات في تفسير سورة الحجرات).

إخوان سورية