لم يكن النظام الأسديّ الحاكم يتعامل مع حماة على أنها إحدى المحافظات السورية الكبرى، ولم يكن يتعامل مع سكانها على أنهم جزء من الشعب السوريّ.. وهذا في الحقيقة ينسحب على الشعب السوريّ كله الذي ابتُلِيَ بهذا النظام الجائر الاستبداديّ.. لذلك، فقد كان سلوكُه يُمَاشي سلوكَ أي محتلٍ للوطن أو مستعمرٍ خارجيٍ غريبٍ عنه، وكانت وسائله للحفاظ على سلطته التي سلبها بالقوة والانقلابات العسكرية، مبنيةً على سياسات الأرض المحروقة، وعلى القمع العنيف، والاضطهاد الدمويّ، والإرهاب، ونشر الخوف والرعب، والتصفيات الجسدية، والإقصاءات الظالمة.. وهذا بالضبط ما كان يسلكه النظام في (حماة) خلال عمليات صنع مأساتها العظمى، والمآسي المتفرقة التي سبقتها أو تبعتها!..
خلال اشتداد احتجاجات الشعب السوري واعتصاماته وإضراباته، التي شملت المحافظات السورية كلها في عامي 1979م و1980م.. قام (رفعت أسد) شقيق رئيس النظام وقائد سرايا الدفاع (عن النظام وشخصياته) ونائب رئيس الجمهورية للشؤون الأمنية لاحقاً.. قام بإطلاق خطةٍ فاشيةٍ للتطهير (الوطنيّ)، وذلك خلال المؤتمر القطريّ السابع لحزب البعث، المنعقد بتاريخ (6/1/1980م)، وفحوى هذه الخطة الإجرامية هو: جمع الآلاف من نخب الشعب السوري المعارضين للنظام، في معسكرات اعتقالٍ جماعية، تحت ظروف الأعمال الشاقة وعمليات غسل الدماغ، لتنفيذ ما أطلق عليه (زوراً) اسم: (تخضير الصحراء)!.. ومما جاء في خطاب ذلك المعتوه في المؤتمر نفسه: [إنّ ستالين أيها الرفاق، قضى على عشرة ملايين إنسانٍ في سبيل الثورة الشيوعية، واضعاً في حسابه أمراً واحداً فقط، هو التعصّب للحزب ولنظرية الحزب، ولو أنّ لينين كان في موقع وظرف وزمان ستالين لَفَعَل مثله، فالأمم التي تريد أن تعيش أو أن تبقى، تحتاج إلى رجلٍ متعصّب، وإلى حزبٍ ونظريةٍ متعصّبة]!.. وهذه العقيدة الحزبية هي بالضبط ما نفّذه المجرمان: (رفعت أسد) وشقيقه (حافظ) في سورية، لاسيما في حماة.. فقد كان الجنود ينفّذون أوامر الجهات العليا (بدءاً من رئيسهم حافظ أسد) بالتدمير الشامل للمدينة، واتّباع سياسة الأرض المحروقة، قتلاً وحرقاً وتدميراً وإبادة!..
لقد دمّر جنود (الصمود والتصدي) الأسديون مساجد المدينة، ومعظم تلك المساجد دمِّرَت تدميراً كاملاً، وبعضها دُمِّر على رؤوس مَن فيها، وقد نقلت الأخبار أنّ التدمير شمل (88) مسجداً، مع المراكز الإسلامية التابعة لبعضها، وقد أحصت اللجنة السورية لحقوق الإنسان في تقاريرها (63) مسجداً تم تدميره.. وأدى هذا التدمير الشامل لمساجد المدينة، المترافق مع قتل الأئمة والعلماء والخطباء والمؤذّنين.. إلى غياب الأذان عن المدينة حوالي ثلاثة أشهر، ومن أشهر المساجد التي دُمِّرت: (جامع الكيلاني والجامع الكبير ومسجد سعد بن معاذ وجامع السلطان ومسجد بلال بن رباح وجامع عمر بن الخطاب وجامع الشريعة.. وغيرها)!..
كما أدّت سياسة الأرض المحروقة التي سلكها النظام، إلى تدمير أربع كنائس، ونهبها، أشهرها كنيسة (حماة الجديدة) التي كانت تعتبر تحفةً معماريةً فريدة، واستغرق بناؤها سبعة عشر عاماً.. وكذلك تدمير أحياء كاملةٍ (مثل حي الكيلانية)، فضلاً عن تدمير مئات المنازل والمحالّ التجارية والمشاغل الحرفية والمصانع والمعامل والأسواق، بما في ذلك عيادات الأطباء (حوالي 40 عيادة) والصيدليات والمشافي والمراكز الصحية.. ما أدى إلى تشريد عشرات الآلاف من سكان المدينة بلا مأوى أو مصادر للرزق أو مراكز صحيةٍ للعلاج!..
أما المدارس فقد دُمِّرت كلها تدميراً كاملاً أو جزئياً، إما بالتفجير المتعمَّد (مثل: المدارس الشرعية ومدرسة زنوبيا ومدرسة العفاف والمدرسة الزينية.. وغيرها) بما في ذلك مدارس الأطفال والروضة.. أو بالقصف العشوائيّ (مثل مدارس: سعيد العاص وعمر بن الخطاب والبحتري، وروضة العنادل، وإعدادية بسام حمشو، وثانوية غرناطة للبنات.. وغيرها)، فضلاً عن تدمير كلية الطب البيطري!..
لقد طال التدمير أيضاً، المعالم الأثرية والسياحية والثقافية كلها في المدينة، كما جرى لحي الكيلانية القديم، الذي دُمِّر تدميراً كاملاً بكل قصوره ومعالمه الثقافية والأثرية التي تعود للعهود الأيوبية والمملوكية والعثمانية.. فضلاً عن تدمير الزوايا القديمة والحمامات والمضافات والأقبية الأثرية.. وكذلك تدمير المقامات والمقابر، ومرابض الخيول العربية الأثرية، وناعورة واحدة في الأقل من نواعير حماة الأثرية أيضاً.. مع نهب محتويات (متحف حماة الوطني)!..
* * *
لم يكن التدمير الذي طال البيوت السكنية أو المساجد أو الكنائس أو المعالم الأثرية أو المرافق العامة أو المدارس أو المراكز الصحية والعيادات والصيدليات.. لم يكن عشوائياً كله..
بل كان يتم بالتفجير المنظم في معظم الأحيان، بوضع عبواتٍ ناسفةٍ يقَدَّر وزنها أحياناً في بعض المساجد بمئات الكيلوغرامات من مادة الـ (تي إن تي) شديدة الانفجار، وكانت مثل هذه التفجيرات لدور العبادة تنال من المساكن أو المدارس المجاورة، كما وقع لمدرسة (الراهبات) وبعض البيوت المجاورة أثناء قيام الجنود الأسديين بتفجير (الجامع الكبير) في المنطقة.. ولم يكن التدمير يحترم حرمة المسجد أو حرمة المصاحف والكتب الدينية التي بداخله.. بل كان يُفَجَّر ويُمتَهَن بكل ما فيه!..
* * *
لقد تغيّر وجه المدينة كلياً بعد التدمير الشامل لها ولمرافقها.. وقام النظام الجائر فيما بعد بعمليات إحلال مرافق عامةٍ حديثةٍ مكان المعالم الأثرية أو دور العبادة، كما جرى لجامع (المسعود) الذي تم تدميره وتحويله إلى ساحة مواقف لسيارات الأجرة.. وفي هذا يقول الكاتب الصحفيّ البريطانيّ (روبرت فيسك) الذي تمكّن من دخول مدينة حماة خلال الحصار وأحداث المجزرة الكبرى (في شباط 1982م) ونقل صور بعض الجرائم التي شاهدها هناك، ثم عاد بعد عامٍ تقريباً إلى المدينة ليقول:
[.. وحقيقةً، عندما زرنا حماة في عام 1983م.. كانت المدينة القديمة، وأسوارها وشوارعها الضيقة، ومتحف قصر العظم.. قد اختفت كلها، والمشاهد الأثرية القديمة دُكَّت وسُوِّيَت بالأرض، وأصبحت موقفاً ضخماً للسيارات ..]!..
* * *
إنّ مأساة حماة التي ارتكبها النظام الأسديّ الحاكم.. أضخم بكثيرٍ من أن تُغَطّى على حقيقتها الكاملة، مهما كتبنا وتحدثنا.. وبما أنّ النظام القمعيّ المجرم ما يزال يحاول طمس معالم جرائمه، فإننا نرى أنّ العرب والمسلمين والعالَم كله.. مطالَب اليوم بالتحقيق في هذه الجريمة الإنسانية المركّبة البشعة، وفي كل جرائم النظام السوريّ التي اقترفها بحق سورية وشعبها طوال أكثر من أربعة عقود.
* * *
ستبقى مأساة (حماة) ومجازرها المروّعة وأحداثها الإجرامية التي ارتكبها النظام الأسديّ الفاجر.. ستبقى وصمة عارٍ في جبين الإنسانية، إلى أن يعمل الشرفاء على إحقاق الحق، وإزهاق الباطل ومحاسبة أهله.. وسيبقى النظام الأسديّ المتسلّط على رقاب شعبنا السوريّ.. مسؤولاً وحده عن كل قطرة دمٍ سُفِكَت في حماة، وعن كل روحٍ بريئةٍ أُزهِقَت، وعن كل قرشٍ أو متاعٍ نُهِب، وعن كل معاناةٍ لأبناء حماة وبناتها، وعن كل مأساةٍ سبّبها التهجير أو الاعتقال أو الإخفاء أو حملات الإبادة الشاملة، وعن كل ثروةٍ وطنيةٍ أثريةٍ وسياحيةٍ أو مُقَدَّسٍ دمّره الطغاة الأسديون، وعن كل انتهاكٍ لحقوق الإنسان السوريّ، اقترفه الأسديون الطائفيون المجرمون.
* * *