الإخوان المسلمون في سورية

“والذين يمسّكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين”

د. محمد المجالي

 

جاءت هذه الآية بعد الحديث عن قصة أصحاب السبت، والابتلاء الذي ابتلي فيه اليهود، حيث منعوا من الصيد يوم السبت، وكانت الأسماك لا تأتي إلا يوم السبت، وتغيب سائر الأيام، فاحتالوا على شريعتهم، فنصبوا الشباك يوم الجمعة، وأقبلوا عليها صباح الأحد، أو أنهم حفروا في الساحل دون صيد، واصطادوا يوم الأحد، وانقسم الناس في شأنهم ثلاث فرق، الواقعة في الذنب، والناهية لهم الناصحة، والساكتة، وفي النهاية نجى الله الذين ينهون عن السوء، وأخذ الذين ظلموا بعذاب بئيس شديد بسبب فسقهم، ومسخ تلك الفئة قردة خاسئين، وهو جيل لم يتناسل.

 

والعجيب أن القرآن حين تحدث عن مآل هذه الفرق الثلاث ذكر مصير العصاة ومصير الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، ولم يتطرق إلى الفئة الساكتة، وللعلماء جوابان، إما أنهم مع العصاة لأنهم سكتوا على المعصية، والسكوت علامة رضى، وإما أنهم ليسو كذلك، إنما أعرض الله عن ذكرهم احتقارا لشأنهم، ونأخذ من هذه الجزئية بالذات أهمية أن يكون المؤمن على وعي من دينه، وينتبه للأخطار التي تحف بمجتمعه، وأن يكون إيجابياً مصلحاً لا مجرد صالح، كما تشير الآية نفسها عنوان المقالة، وأبينه بعد قليل.

 

وللعلم فإن الساكتين السلبيين كثرة في المجتمع، صحيح إنهم أقل درجة من المباشرين للمعاصي، ولكنهم يشتركون معهم عموماً في السلبية، هذا موغل في السلبية جريء على الله، وذاك ساكت كأنه يوصل رسالة للآخرين بأن افعلوا ما شئتم، والأصل أن نأخذ على يد الظالم، ونردعه، وننصحه، وأمثلة ذلك من القرآن والسنة كثيرة، لعل أوضحها حديث السفينة الذي بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال في نهايته: “فإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعاً، وإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً”، مع أن القوم كان هدفهم (حسب ظنهم) بريئاً، وهو حفر هوة في قعر السفينة ليشربوا ولا يزعجوا من هم في أعلى السفينة، وهنا يشبه الرسول صلى الله عليه وسلم الذنوب في المجتمع بالخرق في السفينة، ليغرق أهلها جميعاً إن لم يأخذوا على أيدي هؤلاء العصاة.

 

وللعلم فإن بني “إسرائيل” تعرضوا لابتلاءات كثيرة، وذلك لكثرة ترددهم واحتيالهم وسوء أخلاقهم، ولعلهم أكثر الأقوام الذين أرسل الله لهم رسلاً، وقابلوهم بالتكذيب والقتل، كما قال تعالى: “أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم، ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون”، وهم أكثر الأقوام الذين مع إيمانهم، لكنهم فاحشون في كلامهم جريؤون في معاصيهم، فقالوا لموسى: أرنا الله جهرة”، وقالوا: “إن الله فقير ونحن أغنياء”، وقالوا لموسى: “اجعل لنا إلها كما لهم آلهة”، وقالوا: “يد الله مغلولة”، وهكذا، فقوم هذا ديدنهم (غالبا) ليس عجيباً أن يكونوا أهل غدر واحتيال مع غير أهل ملتهم.

 

وعودة إلى عنوان المقال، فقد بين الله تعالى فضيلة الذين يمسّكون بالكتاب وأقاموا الصلاة، فهذه علامة واضحة على إيجابيتهم التي تجاوزت الصلاح إلى الإصلاح، والآية سبقها حديث عن القوم الذين جاؤوا بعد هؤلاء الذين فيهم الصالح والطالح، ومن شأنهم أيضا أنهم كانوا يتمنون على الله الأماني، ورثوا التوراة، ولكنهم يقترفون المعاصي ويقولون سيغفر الله لنا، ولم يبالوا بحلال أو حرام، فلامهم الله: “ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه، وللدار الآخرة خير للذين يتقون، أفلا تعقلون”، فما يفعلونه مناف للعقل السليم، يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، مزقوا دينهم واشتروا به ثمناً قليلاً..

 

هنا يأتي قول الله تعالى مادحا لفئة، وهي التي تتمسك بالكتاب وتعمل به، وتترجم عملياً ما فيه، ولعل الصلاة على وجه التحديد تشكل الجانب الأهم من أعمال المؤمن، حيث صلته بالله تعالى، وينعكس هذا على باطن الإنسان وجوارحه معاً، استسلام كامل لله تعالى فيما أمر ونهى، وخضوع له بالعبادة، فلن يكون شأن هذا إلا تفاعلاً مع دينه، وحباً لربه، ورغبة في صلاح الآخرين لينجوا جميعاً، وهو الإصلاح، ولن يضيع الله أجر المصلحين.

 

وبعض المفسرين على أن المخاطَب بهذه الآية هم المسلمون، بعد أخذ العبرة من القصة، ولسان الحال أن: لا تكونوا كأولئك الذين فسقوا واحتالوا على دينهم وترددوا وانشغلوا بأهوائهم وشهواتهم، بل كونوا ممسكين بكتابكم، عاملين بما فيه من الخير والهدى، والصلاة كما هو معلوم عمود هذا الدين، وصلة المسلم بربه لينال شرف العبودية له سبحانه، واخرجوا عن نطاق أنفسكم إلى فضاء هذا العالم، فكتابكم عالمي، ونبيكم للناس جميعاً، ودينكم آخر الأديان وأكملها، وقد رضيه الله للعالمين ديناً.

 

شتان بين من يعيش لنفسه ومن يعيش لدينه وأمته، بل للإنسانية كلها، يسير بوعي وبمنهج الرحمة “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”، يفرح للخير يصيبه أو يصيب الآخرين، ويحزن للشر والألم يصيبه أو يصيب غيره أنى كان، يسعى لبذل الخير بأنواعه، ويبتعد عن الشر بأنواعه، يراقب الله تعالى في سكناته وحركاته، يحسب للكلمة حسابها، فضلاً عن الفعل، هؤلاء هم الذين عظموا الله وقدروه حق قدره، يدفعه إلى الإيجابية أن صنيعه كله لله تعالى، يعيش لله وفي الله ومع الله، فهؤلاء الربانيون لن يضيع الله أجرهم، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، هؤلاء عظماء كبار عاشوا كباراً وهم عند الله عظماء، فليتنا نكون منهم.

 

الغد الأردنية

إخوان سورية

أضف تعليقاً