بقلم: الدكتور محمد بسام يوسف
مدخَل
لقد نزل الإسلام العظيم لتحرير الإنسان من كل عبوديةٍ لغير الله عزّ وجلّ، ولتحرير الإنسانية من المظالم التي تقع بين أممها وأفرادها نتيجة الخروج عن المنهج الربانيّ العادل الصالح لكل زمانٍ ومكان.. وقد أصّل ديننا هذا كله عبر أصولٍ ثلاثةٍ تحدثنا عنها في مناسباتٍ سابقة، نذكرها هنا للبناء عليها:
1- الأصل الأول أو الهدف الذي ينبغي تحقيقه، لتحقيق العدل والسعادة والرخاء للإنسان، وهو: (لا إله إلا الله محمد رسول الله).. الذي يعني بإيجازٍ شديد: لا واضع لمنهج الحياة إلا الله، ولا مشرِّع لدستور الحياة وقوانينها إلا الله، فهو الإله والربّ الذي ينبغي على الإنسان أن يطيعَه ويعبدَه وينفّذَ أوامرَه ومنهجَه.. وإن لم يفعل الإنسان ذلك، فإنه سيحوّل نفسه إلى عبدٍ لغير الله عزّ وجلّ، الذي سيكون في هذه الحالة.. الربّ المزيّف الذي يضع للناس من عنده منهج الحياة ودستورها وقوانينها الملأى بالأخطاء، وبالتالي الملأى بالظلم، فيحلّ الشقاء والتعاسة والظلم.. بدل السعادة والرخاء والعدل.
2- الأصل الثاني أو وسيلة تحقيق الهدف، وهو: الجهاد في سبيل الله، بكل أنواعه وأقسامه.. التي تتراوح من الجهاد بالقلب إلى الجهاد باليد والنفس.. وما بينهما من جهاد الكلمة والقلم وأساليب الدعوة المختلفة إلى الله ودينه القويم ومنهجه الصحيح الوحيد الشامل.
3- الأصل الثالث أو المحرّك الدائم أو اليوم الآخر، الذي يحرّك الإنسان المؤمن للسعي باستمرارٍ إلى تحقيق هدف الإسلام في الأرض.. وهو اليوم الذي فيه يُكافَأ مَن يؤدي الأمانةَ على خير وجه، ويُعاقَبُ الذي يُقصّر في تأديتها ويتقاعس عن تحرير نفسه وشعبه وأخيه الإنسان.. من كل أنواع العبودية لغير الله عزّ وجلّ.
تلكَ إذن.. كانت أصول الإسلام الثلاثة، التي ينبغي أن ينطلقَ منها المسلم المؤمن.. لكنّ الله عزّ وجلّ وضع لنا إلى جانبها أركاناً خمسة، هي: الشهادة، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج.. هذه الأركان الخمسة تهدف إلى ما يأتي:
1- توفير التربة الصالحة للمؤمن بشكلٍ مستمر.. لتغذيته بالزاد المهم الضروري، للسعي باستمرارٍ إلى تحقيق الأصول الثلاثة المذكورة آنفاً.. في نفسه، وفي كل مكانٍ يستطيع الوصول إليه.. لنجده يتذكّر دائماً بأن لا إله إلا الله، ولا وسيلة لتحقيق ذلك إلا الجهاد في سبيله، ولا شيء يحرّك النفس البشرية للسعي في سبيل الله لتحرير البشرية إلا التذكّر بأن هناك يوماً آخر، فيه يُثاب الناس على التزامهم بتأدية الأمانة الموكلة إليهم من قِبَلِ ربهم عزّ وجلّ.. أو يعاقَبون على تفريطهم وتقاعسهم عن ذلك!..
2- وحَمْلُ الإنسان المؤمن على تبني منهج الله عزّ وجلّ، وبشكلٍ دائمٍ، وبأفضل صورةٍ ممكنة.. وتنفيذ ذلك المنهج الرباني في شؤون الحياة كلها!..
قد نتحدّث عن الأركان كلها، برؤيةٍ تحليليةٍ علمية، في مناسباتٍ أخرى.. لكننا هنا سنتحدّث عن ركن واحدٍ فحسب، هو ركن: الحج، لمناسبته خلال هذه الأيام المباركة.
* * *
الحج.. ذلك المؤتمر الإسلاميّ العالميّ الذي يجتمع فيه مسلمون من كل بقاع الأرض، وفيه يعاهِد المسلمُ ربَّه على السير لتحقيق هدف الإسلام في الأرض.. وعلى الجهاد الدؤوب بشتى أنواعه.. لنشر الإسلام، وتحرير المسلمين بل البشرية كلها.. من ربقة الظلم والاضطهاد والإذلال!..
خلال الحديث عن الحج وشعائره.. لن نتعرّض للأحكام الفقهية والفوائد الثقافية والسياسية والأخلاقية من الحج.. فقد أبدع فقهاء الأمة ومفكّروها -مشكورين- في الحديث عن تلكم الأمور.. لكننا سنقدّم رؤيتنا بأسلوبٍ تحليليٍّ تأملّيٍّ لكل شعيرةٍ من شعائر الحج.. فنكشف كنهها وهدفها.. ولنربط بينها جميعاً.. ونخلص إلى نتائج مهمةٍ.. كانت هي الهدف الذي فرض الله لأجله الحج على المسلمين، ركناً من أركان دينهم العظيم القويم!..
إذن، لنقف معاً عند نفحاتٍ وتأملاتٍ إيمانية.. فنـُزيل الستار عن عظمة ديننا وشعائرنا الإسلامية.. التي تسبر أغوار النفس الإنسانية للمسلم.. فتجعله يجيب على السؤال الكبير:
لماذا فُرِضَت هذه الشعائر، وما حقيقتها وحقيقة أهدافها.. ثم ما الهدف الكبير من ركن الحج كله؟!..
إذا صنّفنا شعائر الحج.. فسنجد أنه يتكوّن من الشعائر الأساسية الآتية:
1- الإحرام.
2- التلبية.
3- الطواف.
4- السعي.
5- الوقوف بعرفة.
6- النحر.
7- رمي الجمرات.
8- الإقامة في (مِنـى).
لنلقي نظرةً تأمّليةً تحليليةً على كل شعيرةٍ من الشعائر المذكورة آنفاً:
أولاً: الإحرام خطوة تجهيزية
في بداية الحج، يجد الحاج المسلم نفسَه أمام أول شعيرةٍ من شعائره، هي الإحرام، فيتحلّل من الثياب
المخيطة، وينظّف جسده نظافةً تامةً، ويكشف رأسه، ثم يضع على بدنه -ليستره- قطعتي قماشٍ بسيطتين غير مخيطتين!..
لا يجوز للمُحرِمِ أن يخاصمَ أحداً من الناس.. كما لا يجوز له أن يقصَّ شعره أو ظفراً من أظافره، ويُحَرَّم عليه الصيد في الحَرَم، أو اقتراف أيٍ من السيئات، كما يحرم عليه التطيّب بالعطر، أو ممارسة الحياة الزوجية العادية!..
نحن إذن أمام شعيرةٍ يبدأ فيها الموسم التعبّدي للحج، وحتى يكون تنفيذها صحيحاً وكاملاً، وحسب ما تقتضيه أوامر الله عزّ وجلّ.. ينبغي أن يقوم الحاج المـُحرِم بما يأتي:
1- الإقبال على الله عزّ وجلّ بنفسٍ نظيفة، وجسمٍ نظيف، وروحٍ نقيةٍ طاهرةٍ مُحْسِنةٍ غير مذنبة!..
2- التجرّد الكامل من مفاتن الدنيا، ومن التمايز بين الناس، الموجود عادةً في الحياة العادية، ومن الانشغال عن هدف الحج والعبادة والتذلّل إلى الله عزّ وجلّ خالق الخَلقِ وحده.. بأي عملٍ أو تصرفٍ مهما كان صغيراً، حتى لو كان قصّ شعرٍ أو تقليم ظفر!..
هناك إذن.. توجّه كامل بكل الجوارح، وتركيز كامل بكل المظاهر الداخلية والخارجية للنفس البشرية، وتهيئة للروح الإنسانية.. للإقبال على عبادة الله عزّ وجلّ وحده، بلا حواجز ولا مراسم ولا أي أمرٍ شاغلٍ للنفس عن هذا الإقبال النقيّ الصافي باتجاهه سبحانه وتعالى.. فهي الخطوة الأولى التمهيدية لما سيتبعها ويؤازرها من خطوات!..
ثانياً: التلبية تأكيد على أنّ الحج هو لله عزّ وجلّ وحده لا شريكَ له
منذ الإحرام ودخوله الحرم الشريف.. يبدأ الحاج بالتلبية ويبقى يلبي حتى آخر فترة الحج تقريباً (حتى رمي الجمرة الأولى).. فيرفع صوته بالنداء حتى يبحّ صوته، كما كان يفعل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما كان يأمرهم رسولنا وحبيبنا عليه أفضل الصلاة والسلام:
لبيكَ اللهم لبيك..
لبيكَ لا شريكَ لكَ لبيك..
إنّ الحمدَ والنعمةَ لكَ والمُلك..
لا شريكَ لك.
لنتخيّل المشهد العظيم:
كل المؤمنين المتوجّهين إلى بيت الله الحرام، من كل أصقاع الأرض وأركانها.. يهتفون بذلك الهتاف الخالد، فيقولون ويعلنون:
جئناكَ ياربَّ الأرباب، ويا خالق الخلق كلهم، جئناكَ نلبي نداءكَ، فأنتَ ربُّنا وحدكَ لا نعبدُ إلهاً ولا ربّاً سواك، ولا نستمدّ منهج حياتنا إلا منك، ونعاهدكَ على المضيّ قُدُماً لتحقيق حُكمكَ وحاكميّتكَ وتنفيذ شرعكَ.. ونحمدكَ يا ربّ العزة على كرمكَ معنا ومنحكَ إيانا منهجكَ العظيم.. فهي نعمتكَ التي لا تُقَدَّر بثمن.. ونحن يا ربّ طوعُ أمركَ، ورَهنُ إشارتكَ، ننفّذ ما تأمرنا به من غير تلكؤٍ أو كللٍ أو مللٍ أو تقصير.. فأعنّا يا ربنا على ذلك، فأنتَ خير معين!..
فالتلبية هتاف المسلم الخالد، الذي يعلن فيه المؤمن أنه ما أتى إلا لتنفيذ أمر إله السماوات والأرضين وحده.. وأنه قادم ليعلنَ عبوديته له وحده، في كل أمرٍ من أمور دنياه، فهو الخالق، وهو الحاكم وحده.. ويعاهده على الجهاد في سبيله وحده، بكل الأساليب الممكنة، حتى يتحقق هدف الإسلام في الأرض.. فتتحقق العبودية التامة في الأرض كلها لربّ الأرباب، الإله الواحد الأحد، الفرد الصمد!..
ثالثاً: الطواف حول قِبلة المسلمين ووجهتهم أينما كانوا في الأرض كلها
الكعبة المشرَّفة هي قبلة المسلمين التي يتوجّهون إليها في صلواتهم كلها، وذلك من أي مكانٍ في أصقاع الأرض وأقطارها.. هذه الكعبة الشريفة يأتي إليها الحجاج المؤمنون مُلَـبِّين، ليطوفوا حولها سبعة أشواط، متذكِّرين أنّ هذه الكعبة قد بناها لهم أبو التوحيد والعبودية لله عزّ وجلّ وحده: سيدنا إبراهيم، مع ابنه إسماعيل عليهما السلام.. ليشعرَ المؤمن بمشاعر إيمانيةٍ خاصةٍ تجتاح كيانه، فهذه الكعبة ما بناها إبراهيم عليه السلام بأمر ربه سبحانه وتعالى.. إلا لتحقيق وحدة المسلمين في أقطار الأرض كلها، على هدفٍ واحد، وليعبدوا إلهاً واحداً لا شريك له، وينبذوا كل الآلهة والأرباب المزيّفين الحاليين والسابقين على مرّ التاريخ والعصور!..
يطوف المؤمنون وهم يهتفون هتاف رسول الله صلى الله عليه وسلم:
بسم الله، والله أكبر..
اللهم إيماناً بك..
وتصديقاً بكتابك..
ووفاءً بعهدك..
واتباعاً لسنّة نبيّك..
ثم يدعو كل منهم ما يخطر في باله من أدعية، متوجهاً بقلبٍ صافٍ نقيٍ إلى رب العزة جلّ جلاله، طالباً منه العفو والغفران، والتأييد والدعم في كل شؤون حياته!..
يطوف المؤمنون وفق دائرةٍ لا تنتهي حتى تبدأ من جديد، معاهدين ربّ الأرباب جلّ وعلا بهتافهم المذكور الذي يعني:
باسمك يا رب، يا أكبر من كل كبير، نعاهدك عهد الإسلام والإيمان، على أن نستمر معظم حياتنا بالحركة المستمرة والجهاد الدائم الذي يبدأ ولا ينتهي حتى تحقيق أهدافه، في تحرير الناس من العبودية لغيرك، وحتى يتهاوى كل طواغيت الأرض، وينتقل الناس من عبادة الطغاة والعباد.. إلى عبادة ربِّ العباد والأرباب أجمعين وحده.. وسنورّث أهدافنا إلى ذرارينا التي ستأتي من بعدنا، لتستمر -بعد رحيلنا عن هذه الدنيا الفانية- حركةُ الجهاد إلى يوم القيامة.. فيبقى كتابك الكريم هو الحاكم الوحيد الشامل لحياة البشر، تدعمه سنّة نبيّك وحبيبك محمدٍ صلى الله عليه وسلم.. يا رب الأرباب: نعاهدك على كل ذلك، عهد التصديق والوفاء والإيمان!..
وقفة: تتمّات الطواف:
ثم يصلي الحاج المؤمن ركعتين عند مقام سيدنا إبراهيم عليه السلام، باني الكعبة قبلة المسلمين، والمؤذِّن للناس بالحج، وداعيهم للقدوم إلى هذا اللقاء العالميّ الواسع من أقطار الأرض وأركانها كلها، ليُجَدِّدوا عهدهم عند بيت الله الحرام، بالاستمرار في الحركة والعمل والجهاد حتى تكونَ كلمة الله هي العليا، ويكون دينه ومنهجه هو المحكَّم بين الناس، ويُزال كل طاغوتٍ في الأرض إلى يوم الدين!..
وينـزل الحاج بعد ذلك إلى بئر زمزم، ليعبَّ من مائها المبارك، ويغسل رأسه.. فيتذكّر معجزة الله عزّ وجلّ في تفجير مياه هذه البئر، إكراماً للسيدة هاجَر زوجة نبينا إبراهيم عليه السلام، وإغاثةً لها ولولدها إسماعيل عليه السلام.. وما تزال هذه المياه المتفجرة متدفقةً منذ آلاف السنين.. تفجّرت في صحراء قاحلة، واستمرت، وستستمر بإذن الله.. فشرب منها ملايين الملايين.. وسيشرب منها ملايين أخرى وأخرى.. يتذكّر الحاج المؤمن بكل ذلك، أن الله سبحانه وتعالى قادر على كل شيء، وهو وحده ناصر المؤمنين وقاهر الجبارين مهما بلغت قوتهم.. وكما تفجّر المستحيل بتفجير ماء زمزم واستمرار تدفّقه.. فسيبزغ فجر الإسلام والمسلمين من أعماق المحنة والإحباط.. وكما أغاث الله جلّ وعلا السيدة أم إسماعيل وولدها إسماعيل عليه السلام، في مكانٍ ووقتٍ لا يمكن فيهما –بمعايير البشر- أن تتم الإغاثة.. فهو سبحانه وتعالى سيُغيث المجاهدين في سبيله بنصرٍ وفتحٍ من عنده، يتحقق من أعماق المعاناة وحلكة الظلام، مهما اشتد اسوداداً ومأساويّة!..
رابعاً: السعي بين الصفا والمروة تجديد للعهد مع الله عزّ وجلّ
ينطلق الحجاج المؤمنون إلى المسعى، فيحثّون السير سبعة أشواطٍ أيضاً بين جبلي الصفا والمروة.. إذ يرتقون الصفا هاتفين بأعلى أصواتهم:
(لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلك، وله الحمدُ، يُحيي ويُميتُ، وهو على كل شيءٍ قدير.. لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبدَه، وهزمَ الأحزابَ وحده).
ثم يهتفون مثل ذلك أيضاً عندما يرتقون المروة..
وهكذا في كل شوط، سبع مراتٍ متتاليات، ذهاباً وإياباً.. يرتقون جبلاً، ويهبطون وادياً، ويسيرون في سهل.. يمشون تارةً، ويُسرعون ثانيةً (بين الميلين الأخضرين).. إلى أن ينتهوا من أشواطهم السبعة، داعين الله عزّ وجلّ ومسبّحين ومُلَبـِّين.. فيجدّدون عهدهم مع الله جلّ وعلا ويؤكّدون عليه.. إنه عهد العمل والجهاد والدأب المستمر في سبيل الله سبحانه وحده.. فما إن يبدأ المسلم المؤمن بالسعي فيقطع مرحلةً من مراحل عمله ودأبه لنصرة دينه.. حتى يعودَ إليها من جديد، ليتفقّد ما أنجز.. فيسدّد ويصوِّبَ ويؤصِّل.. ويتأكّد من ثباته على الطريق المستقيم القويم، من غير انحرافٍ أو ابتعادٍ عن هدفه أو ثوابته.. يفعل ذلك مُلبّياً هاتفاً بوحدانية الله عزّ وجلّ، مُعاهداً على التزام أوامره واستمرار دأبه طوال حياته كلها.. مُبتدئاً من مرحلةٍ ثم مُنتقلاً إلى التي تليها بثباتٍ وعزمٍ متجدّد.. إلى أن يحققَ هدف الإسلام في الأرض، ويحققَ الحاكمية لله جلّ جلاله.. وهكذا، يعاود ويصحّح ويصوِّب خُطاه باستمرار.. متفقّداً ما بنى، متأكّداً من حسن ما صنع، مستمراً في طريق الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، من غير كللٍ أو ملل، يقطع بهدوءٍ مرحلةً وراء مرحلة، وبثباتٍ ويقينٍ وإيمانٍ مُطلَقٍ بأنّ الخاتمةَ للمؤمنين، والعاقبةَ للمتّقين، والنصرَ للمجاهدين العاملين.. وفي ذلك تتم إزالة كل طواغيت الأرض (هزم الأحزاب وحده)، وإقامة منهج الله عزّ وجلّ (نصر عبده)، وزوال كل جبارٍ في الأرض يستعبد الناس.. فيتحرّر البشر من تسلّط طواغيتهم، ويتوجّهون إلى الله عزّ وجلّ ربهم وإلههم متساوين، يسودهم حُكمُهُ العادل، ويسوسهم خيرهم ديناً وعزيمةً وكفاءةً وتقوى، وتتحقق كرامتهم من غير تفريقٍ بينهم.. وتستمر بهم حال العدل والمساواة والتكريم إلى آخر الحياة!..
خامساً: الوقوف بعرفة تتويجٌ لإعلان العبودية لله عزّ وجلّ وحده
هناك.. في عرفات.. يُتمَّم البناء، وتكتمل حلقة التوجّه إلى خالق الـخَـلْق أجمعين.. التي بدأت من اللقاء بالصلاة جماعةً في مسجد الزقاق، ثم بصلاة الجمعة في مسجد الحي، ثم بصلاة العيد في مُصلى المدينة.. وهاهو ذا العالَم كله يلتقي الآن هنا في عرفات!.. حيث يتجلّى الله تبارك وتعالى على عباده، فيُباهي بهم ملائكته، فهؤلاء هم المؤمنون جاؤوه شُعْثاً غُبْراً يعاهدونه على الجهاد في سبيله، وفي سبيل تنفيذ أوامره في الأرض كلها، والاستمرار على حياة الدعوة والعمل والجهاد حتى الموت!..
هناك.. في عرفات.. يحتشد ملايين الناس: بلباسٍ واحد، وحالٍ واحدة، وتهليلٍ واحد، وتكبيرٍ واحد، وتلبيةٍ واحدة.. وذلك كله أمام ربٍ واحدٍ لا شريك له، يعاهدونه عهد الإيمان والإسلام على السير وفق منهجه ودستوره وشريعته التي وضعها لهم!..
هناك.. في عرفات.. تنتهي الحدود، وتُزالُ الفوارق بين البشر والأجناس، وتزول المراتب والدرجات الدنيوية، وتموت المسافات.. فلا تفاضل هنا إلا بالتقوى!..
يهتف المؤمنون كلهم بشعار الإسلام الخالد:
(لبيكَ اللهم لبيك، لبيكَ لا شريكَ لكَ لبيك، إنّ الحمدَ والنعمةَ لكَ والمُلْك، لا شريكَ لك).
هو عهد دائمٌ، يتجدّد في كل خطوةٍ ومرحلة: سنحقق الهدف بإعلاء كلمة الله رب الأرباب كلهم، وسنُزيل كلَّ طاغوتٍ في الأرض، وسنُحرِّرُ أنفسنا والناسَ جميعاً من كل ظلم!..
ويزيد المؤمنون على ذلك بالتكبير:
(الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر).
ليؤكّدوا أنّ الله أكبرُ من كل كبير، وأكبرُ من كل ربٍ مزيَّف، وأكبرُ من كل جبارٍ في الأرض، وأكبرُ من كل طاغيةٍ يحكم بغير ما أنزل سبحانه وتعالى!..
في عرفات.. من المفترض أن يخطبَ في الناس خليفتهم وإمامهم أمير المؤمنين، أو مَن يوكله بذلك.. فيرحّب بهم في رحاب الله عزّ وجلّ، ويذكّرهم بعهد الله عليهم، بأن لا يُشرِكوا به أحداً، وأن لا يرضوا بأن يُشرِكَ أحدٌ به في الأرض كلها.. أما المستمعون إلى الخطبة، فهم المندوبون عن الشعوب في كل مكانٍ في العالَم!..
هناك.. تلهج القلوب بالدعاء والثناء على الله تبارك وتعالى، فتصل إليه الدعوات والرجاءات فوراً من غير وسيطٍ أو واسطة.. ويستمر الدعاء من بعد الزوال حتى غروب الشمس.. وخير ما دعا به رسولنا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم، ذلك العهد على تحقيق هدف الإسلام في الأرض:
(لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلْكُ وله الحمدُ، يُحيِي ويُميتُ وهو على كل شيءٍ قدير).
في عرفات.. يتحقق الموقف العظيم، لأنه اللقاء الحي مع الله جلّ وعلا الذي يتجلّى على الناس.. فيقبَل منهم العهد، ويُباهي الملائكةَ بعباده المؤمنين الطائعين.. إنه اللقاء العظيم بين الله وعباده المؤمنين:
يقدِّمون له العبادة، ويُقدِّم لهم الكرامة والحرية.. يعاهدونه على المضيّ قُدُماً في طريق الإسلام العظيم، فيباركهم ويبارك عهدهم.. يَعِدونه بالطاعة الكاملة، ويَعِدهم بالعِتْقِ من النار!..
ثم يزحف الناس عند الغروب إلى (مزدلفة) أو (المشعر الحرام).. ثم إلى (مِنى) لرجم الشيطان الرجيم.. يزحفون متزاحمين بالأكتاف الليّنة، والقلوب الصافية، والأرواح الحانية، والعزم الشديد، والإصرار العنيد على المضي في طريق الله عزّ وجلّ.
سادساً: رمي الجمرات براءةٌ من الشيطان اللعين
يرتاح الحجاج المؤمنون المسافرون في (مِنى)، فهي محطة تفصل ما بين مكان العهد مع الله عزّ وجلّ في عرفات، وبين بقية أنحاء الدنيا التي سينفَّذ فيها ذلك العهد الوثيق!..
ومن (مزدلفة) يجمع المؤمنون الحصيّات التي سيرجمون بها إبليسَ اللعين، زعيم الطواغيت وربهم المزيَّف الأكبر.. وبذلك، فالمؤمنون بعد أن عاهدوا الله سبحانه وأعطوه الميثاق الغليظ بأن يعبدوه وحده لا شريك له.. يتوجّهون لتأكيد عهدهم وميثاقهم الغليظ.. يتوجّهون للبراءة من الشيطان الرجيم، والوسواس الخنّاس، الذي يفتن الناس ليحرفهم عن طريق الحق!..
من بوابة (مِنى)، ما بين مكان العهد المبرَم مع الله عزّ وجلّ وبين أمكنة تنفيذه.. يلج المؤمنون مؤكّدين طاعتهم لله جلّ وعلا القاهر الحق، ومتهيِّئين لبراءتهم من الشيطان اللعين زعيم الباطل، وذلك بجمع الحصيّات التي سيرجمونه بها!..
سابعاً: النحر إراقةٌ للدم في سبيل الله سبحانه وحده
يتوجّه الحجاج المؤمنون بعد ذلك إلى (المنحر)، ليُريقوا أغلى شيءٍ في الحياة الدنيا.. ليُريقوا الدمَ لله عزّ وجلّ.. رمزاً على أنّ الدماء أرخصُ من المبادئ والعقيدة، فدون إسلامنا ومنهجنا.. دماؤنا وأرواحُنا رخيصةً.. في سبيل الحيّ القيوم جلّ جلاله، وفي سبيل تحقيق منهجه وسلطانه العظيم في الأرض كلها!..
ثم يتوجّهون إلى مكة ليطوفوا ويسعوا من جديد.. لتجديد العهد وتأكيده مع الله عزّ وجلّ، بأننا: على الحق سائرون، وإلى تحقيقه ساعون، وفي سبيلك يا ربَّ الأرباب مستمرّون، وعلى هديكَ ماضون!..
ثامناً: العودة إلى (مِنى) استعداد لدخول أروقة الدنيا ودار الامتحان الكبير
ثم يتوجه الحجّاج المؤمنون إلى مِنى للإقامة فيها يومين أو ثلاثةً من أيام العيد.. وتلك فترة أكْلٍ وشْربٍ كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيها يتحلّل المؤمنون من ثياب الحج الخاصة، ويرتدون ثيابهم العادية التي سيعيشون بها في دنياهم.. وفيها يأكلون من لحوم الأضحيات التي أراقوا دماءها لله عزّ وجلّ، وفيها يتعارفون، ويستعدّون لدخول أبواب الدنيا المختلفة، برفض مناهج الشيطان وتلامذته من الطواغيت والأرباب المزيَّفين المتسلِّطين على رقاب الناس.. وذلك برجم زعيم الباطل إبليس اللعين، سبعاً.. سبعاً، في كل يومٍ عند العقبات الثلاث.. يرجمونه وهم يصرخون:
(باسم الله، والله أكبر).
فيؤكّدون بذلك أن: (باسم الله) نرميكَ ولن نعملَ بما تُوحِيه إلينا أو توسوس به أيها الباطل اللعين.. (والله أكبر) منكَ ومن كيدكَ أيها المزيَّف الرجيم!..
بعد ذلك يغادرون إلى مكة ليطوفوا فيها طواف الوداع، مؤكّدين عهد الله للعمل الدائب في سبيله.. مودِّعين بيتَه الحرام ورمزَ توحيده، ثم متوجِّهين من جديدٍ إلى بلادهم وديارهم المتناثرة في كل أرجاء المعمورة، حمُاةً لدينه، ودُعاةً لمنهجه، وجنوداً لإعلاء كلمته في كل بلدٍ وركنٍ من بلاد الأرض وأركانها!..
تاسعاً: زيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بلَّغ الناس دينهم
إنها المحطة المهمة التي يتوقّف فيها الحاج في ذهابه وإيابه، أو في أحدهما.. فيزور مسجدَ الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة.. يزور المجاهدَ الأولَ الأعظمَ الذي بلّغ رسالة ربه للناس، وجمعهم عليها، فبلغت ثمار جهده وجهاده أقاصي الأرض، فقضى على كل طاغوتٍ يحكم بغير ما أنزل الله عزّ وجلّ، وأزاح كلَّ ربٍ مزيَّفٍ يستعبد الناس، ويُذِلّهم، ويمتهن كرامتهم، وينتهك حُرّيتهم!..
وهناك في مسجده صلى الله عليه وسلم.. يجد المؤمن إلى جانبه صاحبَيْه الحبيبَيْن، أبا بكرٍ وعمر بن الخطاب رضوان الله عليهما، والخليفتَيْن الراشدَيْن اللذَيْن سارا على نهجه وخُطاه عليه الصلاة والسلام، ونفّذا أوامره وشرعه في الأرض، إلى أن صارَ الإسلام ظاهراً على كل المناهج البشرية الوضعية الضالة، فاندثر الطغاة مستعبدو الأمم والشعوب، وتحرّر الناسُ بالإسلام في عهدَيْهما رضي الله عنهما.. من طواغيت الأرض الضالين المـُضِلِّين!..
عاشراً: العودة إلى الوطن بمغفرةٍ ربّانيةٍ وعزيمةٍ لا تلين
يعود الحجاج المؤمنون إلى أوطانهم المختلفة، وفي طريق عودتهم كلما ارتقوا جبلاً، هتفوا:
لا إله إلا الله وحده لا شريك له (الهدف)، له المُلْكُ وله الحمدُ، وهو على كل شيءٍ قدير (لا يفلت من حسابه أحد من الخَلْق).. آيبون تائبون (من تقصيرنا الذي مضى)، عابدون ساجدون لربنا حامدون.. صدق الله وعده (وسيصدق حتماً في كل حين).. ونصر عبده (وسينصر عباده دائماً).. وهزم الأحزاب وحده (وسيهزمهم في كل وقتٍ وعصرٍ وحين)!..
النتيجة الإجمالية من الحج وشعائره
لقد فرض الله عزّ وجلّ الحجَ مرةً واحدةً في العمر، وسنّ رسولنا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم الحج مرةً كل خمس سنوات، ويأتي موسم الحج بعد موسم الصيام وشهر رمضان بقليلٍ من الوقت، الذي فيه يستعدّ المسلم استعداداً إيمانياً راقياً طوال شهرٍ كامل، فيجد نفسَه قريباً من ربه سبحانه وتعالى، متهيّئاً نفسياً وإيمانياً للحج وشعائره!..
في الحج.. نجد أنفسنا أمام تحركٍ شعبيٍ جماهيريٍ واسع، على مستوى الإنسانية كلها.. يهتف ملايينه بهتافٍ واحدٍ وشعارٍ واحد: (لبيكَ اللهم لبيك..).. فيه يجتمع الناس طائفين وساعين وواقفين بعرفة ومتعارفين وراجمين للشيطان الرجيم.. مُعاهدين إلهاً واحداً هو الله جلّ وعلا، على المـُضِيِّ في طريقٍ واحد، لتحقيق هدفٍ واحد، والاستقامة على منهجٍ واحد، والجهاد في سبيل تحرير الإنسانية، ونقل شعوبها من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد، حتى يسجدَ سكانُ الأرض كلهم لله عزّ وجلّ وحده، وحتى تُزال الطواغيتُ في كل مكان، فيتحرّر الناس من كل بغيٍ وطغيان، حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله جبّار السماوات والأرض!..
في الحج.. يشعر الإنسان المؤمن بعزّة المبدأ، وعزّة الانتماء، وعزّة الأمة التي كانت خير أمةٍ أُخرِجَت للناس.. وفيه.. تزول الحدود في نفس المؤمن، وتصبح نظرته إنسانيةً واسعةً عالميةً شاملة، بدل أن تكونَ محلّيةً محدودةً ضيّقة.. فيتحرّر من عُقدَته المحلّية الخاصة أمام الحل العام الشامل للعالَم الإسلاميّ والعالَم كله.. فينقلب يَأسُهُ أملاً، وإحباطُهُ هِمَّةً، وأملُهُ الضعيفُ أملاً عظيماً.. ويقتنع بأنّ الدنيا كلها هي الميدان الحقيقيّ لجهاده ودأبه ودعوته في سبيل الله عزّ وجلّ، فإذا ما سُدَّ من أمامه منفَذ أو ميدان، فُتِحَت له منافذ وميادين أوسع وأرحب على مستوى الأرض كلها.. والثمار ستكون على مستوى الإنسانية كلها.. لله سبحانه وتعالى، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولدينه العظيم القويم، ولأمة الإسلام والمسلمين.. مهما تباعدت المسافات.. فلا شك أن الله عزّ وجلّ سيُظهِر دينَه على الدين كله، ولو كره الكافرون!..
(يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (الصف:8)
——————————————-
حُرِّرَت في 13 من كانون الثاني 2005م.
التحديث الأول في 17 من كانون الأول 2007م.
التحديث الثاني في 15 من أيلول 2015م.
التحديث الثالث في 9 من آب 2019م.