إنه المصطفى محمد صلى الله عليه وسلّم، المجاهد في سبيل إعلاء كلمة الله عزّ وجلّ، وفي سبيل إقامة منهجه سبحانه وتعالى، ونشرِ دعوة الإسلام في الأرض، لتحرير الإنسان في مشارق الأرض ومغاربها، وتكريمه، ونقله من الظلمات إلى النور.. إنه المجاهد الذي امتثل لأمر الحيّ القيّوم وحده لا شريك له، فانطلق للجهر بالدعوة العظيمة، صابراً ثابتاً شامخاً، على الرغم من يقينه أنّ قومه سيعترضون سبيله، وأنّ ذلك سيكون سبباً لإيذائه أشد الأذى، وإيذاء أصحابه المجاهدين الصابرين.
وهاهم أنصار الشيطان، يخطِّطون ويكيدون لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولأصحابه رضوان الله عليهم.. فيستهزئون بالدعوة والدعاة، ويؤذون الرسولَ المجاهد، ويستخدمون الوسائل المتاحة كلها، لمحاربة المؤمنين الصادقين.. فها هو ذا أبو جهلٍ يحاول قتله، عليه الصلاة والسلام، بحجرٍ ضخم، وهو ساجد يصلّي.. وها هو ذا أبو لهبٍ يرمي القذر مع زوجته أم جميل، في طريق رسول الله، وها هو ذا الوليد بن المغيرة، يتّهمه بأنه ساحر فيه مَسّ.. لكنّ المجاهد الصادق الصابر لا يأبه لذلك كله، ما دام مطمئناً إلى الطريق القويم، وإلى حتمية بلوغ الهدف العظيم.. يتحمّل، ويُقاسي، ويُصابر، وينبذ كل المرغِّبات التي يُقدِّمها أعداء الله، ليثنوه عن الاستمرار في دعوته وجهاده، فليست ممارسات الكفّار إلا ابتلاءً من الله عزّ وجلّ، تُـمتَحَن بها صلابة النفوس، وثبات المجاهد، وقوة العقيدة في نفسه.. وها هو ذا المجاهد العظيم يردّ على الأعداء ردّ المجاهدين الأوفياء لدعوتهم: [والله يا عمّ، لو وضعوا الشمسَ في يميني، والقمرَ في يساري، على أن أتركَ هذا الأمر، ما تركته، حتى يُظهرَه الله، أو أهْلَكَ دونه]. ردٌّ لا لبس فيه، بل قوة وعزّة، قوة المخلص لدعوته، وعزّة المجاهد الذي يعلم أنّ كل ما يُعرَض عليه من زخرف الدنيا وزينتها، إنما هي فتنة يُراد بها إخراجه من النور إلى الظلمات!..
نعم.. لن يستطيع كفّار قريش، أن يُثنوا هذا الرجلَ الصابر، عن المضيّ في طريق الحقّ، حتى لو كانت الشمس رهن أيديهم يحركونها كما يشاؤون، أو لو كان القمر ملكهم، يضعونه حيث يبتغون.. ردٌّ قويٌّ، لا يصدر إلا عن مجاهدٍ صلب العزيمة، مُفعَم القلب بالإيمان.. ومُحال على طغاة قريشٍ أن يمتلكوا الشمسَ أو القمر، ومُحال عليهم إذاً، أن يباعدوا بين الرسول المجاهد وإيمانه، فهو المؤمن الذي يثبت على الطريق، وأمامه إحدى الحسنيين: فإما نصر الله العزيز الجبار الحكيم، وإما الهلاك في سبيل الواحد الأحد.
* * *
ثم يُمتَحَن المجاهدُ المؤمن، بأصحابه رضوان الله عليهم، الذين ساروا على دربه.. فيثبتون كما ثبت، رجالاً ونساءً.. فبلال الحبشيّ يتحدّى سيّده أمية، متحمِّلاً رمال الصحراء الملتهبة، لأنه يعلم أنها لا تساوي شيئاً من سعير جهنم!.. وعمار بن ياسر، يذوق شديد العذاب، وها هو ذا أبوه يُقتَل أمام عينيه، وها هي ذي أمه تُقتَل أمام ناظريه.. فهي جِبِلَّةُ الطغيان في كل زمانٍ ومكان، لأنّ مِلّة الكفر واحدة، من صدر الإسلام إلى يومنا هذا، فالأساليب الشرّيرة نفسها، يقترفها الطغاة لإخراج المجاهدين عن طريقهم وإيمانهم بعقيدتهم.. وإنه شأن المؤمنين الصادقين في كل زمانٍ ومكان، يثبتون على الطريق، ويتحدّون الباطلَ أن ينال منهم أو من ذرةٍ من إيمانهم: ((أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ)) (العنكبوت، آية2).. وإنها حال أعداء الله في كل زمانٍ ومكان، عندما تفشل حججهم، وتسقط مزاعمهم.. فيميلون إلى الكيد، والبطش، والأذى والقمع بشتى أنواعه!..
* * *
وهل يُجدي الحصار مع المؤمنين الصادقين؟!.. لقد جُرِّب هذا الأسلوب العدوانيّ، وحوصِرَ المجاهدون المؤمنون في شِعب أبي طالب.. مدة ثلاث سنوات، لا يجدون ما يأكلون، إلا بعضاً من ورق الشجر.. فيُكابِدون شظفَ العيش.. لكن أنّى للأقزام أن يُضعِفوا إيمانَهم؟!.. وأنّى للمجاهد الحق أن تفترَ همّته أو تكلّ عزيمته؟!..
ومع فشل الأساليب كلها، يشتدّ الأذى والتعذيب، فيفقد الطغاةُ صوابَهم.. ويأمرُ رسولُ الله، عليه الصلاة والسلام أصحابَه، بالهجرة إلى الحبشة.. فيهاجرون، مرةً أولى، ثم ثانية..
* * *
يحصل كل الذي حصل، والمجاهد الحقّ ثابت مرفوع الرأس، يخرج من محنةٍ ليدخل أخرى.. فتزداد خبرته وقوّة الإيمان في نفسه.. إذ ها هي ذي زوجته خديجة (رضي الله عنها)، سَكَنه النفسيّ وعَوْنه في السرّاء والضرّاء، يتوفّاها الله.. وها هو ذا عمه أبو طالب، الذي كان يدعمه ويحميه من أذى أعداء الله.. يُتوفّى بعد شهرٍ من وفاة الزوجة الرؤوم.. وها هو ذا الرسول العظيم صلوات الله وسلامه عليه، والمجاهد الحق، يفقد السَّكَنَ النفسيّ والدعمَ المعنويّ، وذلك خلال شهرٍ واحدٍ فحسب.. ليدخلَ محنةً أخرى يشتد فيها الابتلاء.. فيلجأ، صلى الله عليه وسلم، إلى الطائف، طالباً العونَ والنصرة.. فيخذله أهلُ ثقيف، ويرميه سفهاؤهم وغلمانهم بالحجارة حتى تَدمى قدماه.. ولا يجد المجاهد المؤمن إلا اللجوء إلى الله ربّ الأرباب، فليس له ناصر سواه، ولا حَل إلا بالدخول في حِماه، بعد أن تخلّى عنه الناس: [اللهمّ إليكَ أشكو ضَعْفَ قوّتي، وقلّةَ حيلتي، وهواني على الناس].. فلم يفتر، ولم ينل الظالمون من الإشعاع النورانيّ الذي عَمر قلبه، على الرغم من أنّ السبل كلها، قد سُدَّت من أمامه، وحُوصِرَ من كل جانب.. فهكذا يُبتَلَى المجاهد الصادق صاحب الهدف العظيم، وهكذا تتعاظم المحن في طريقه، حتى لَيُخَيَّل لقصير النظر، أنّ أمر الله انتهى، وأنه لابد من الذوبان في بوتقة الهزيمة والضياع، ولكنّ ذلك ليس من شِيَم المجاهدين الصابرين.. فهم ماضون دائماً على الطريق الحق، حتى بلوغ هدفهم العظيم: ((وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)) (القصص، آية5).
* * *
وعندما تضيق السُّبُلُ بالمجاهد العظيم صلّى الله عليه وسلّم، يخرج مهاجراً من دياره إلى أرض الغربة، فلعلّ في ذلك بركةً وقوةً ومَنَعة، يخرج بدينه، ويخرج أصحابه القادرون على الهجرة، إلى أرضٍ يستطيعون فيها أن يعبدوا الله عزّ وجلّ. ولا يُعدم الرسول العظيم وسيلةً للتهيئة لهذا الأمر، لأنّ المجاهد الحق واعٍ حصيف، يُخِّطط لخطواته كلها التخطيط المحكم، حتى يبلغَ النجاحَ والانتصارَ بعونٍ من الله عزّ وجلّ.. فكانت بيعة العقبة الأولى، ثم الثانية، ليبذر بذار الإيمان في المجتمع الذي سيأوي إليه، ويدخل في حِمَاه..
ثم يخرج من أرضه ووطنه، يأبى أن يمسَّه الضعف أو الهوان، ويهيِّئ الله له أنصاراً آمنوا به حق الإيمان، فيُستقبَلُ أعظم استقبال، ويُعزَّز ويُكرَّم، وذلك بعد ثلاث عشرة سنة من الجهاد والعمل الدؤوب الهادف، فيُقيم دولةَ الإسلام رغم أنوف الطغاة عبيد الأصنام والشهوات، ويسقيها بالإيمان، فتترعرع خيرُ دولةٍ على وجه الأرض، وينمو المجتمع الذي لا مثيل له..
* * *
ويمضي المجاهد الرسول العظيم، من جهادٍ إلى جهاد، ومن انتصارٍ إلى انتصار، حتى تتم َّكلمةُ الله سبحانه وتعالى، ويتحقّق ما كان يَعِدُ به أصحابَه، عندما كان وكانوا في أشد حالات الضعف.. فيرسخ الإيمان ويتجذّر، ويبقى المجاهدون الصابرون حُمَاته الأوفياء، ويمضي الكفر وأهله إلى الجحيم، فيُقتَلُ أبو جهلٍ وجلاوزة الكفر من طغاة قريش، ويُصيب المرض الشديد العضال أبا لهبٍ وأشباهه من أعمدة الكفر، فيموتون شرّ مِيتة.. وتبقى كلمة الله هي العليا، ويبقى المجاهد العظيم، صلى الله عليه وسلّم، وأصحابه، ينتقلون من نصرٍ إلى نصر، ومن فتحٍ إلى آخر..
ثم يُكمل أصحابه من بعده ما بدأه عليه الصلاة والسلام، حتى تُزَيِّنَ كلمةُ التوحيد والإيمان ربوعاً فسيحةً من أرض الله، وتصبح دولة الإسلام أعظم دولةٍ على وجه الأرض، بعد أن يُزيل المجاهدون الصابرون المؤمنون –بإذن الله- مُلكَ كسرى وقيصر، ومُلكَ الطغاة الظالمين في مَشارق الأرض ومَغاربها.
* * *
إنها ثمرات الجهاد الحق، والثبات على الطريق الهادف، والوقوف بحزمٍ وقوةٍ أمام المحن والتحدّيات والعقبات، من غير تردّد.. مهما تكاثر شياطين الإنس، وسفهاء البشر، وحثالات الأمم، ورويبضات الأرباب المزيّفين. ((وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)) (الأنفال/30).
فَنِعْمَ الجهاد جهادك يا حبيبنا يا رسول الله، ونِعْمَ القُدوة أنت، ونِعْمَ الدِّين ومنهج الحياة العادل الشامل الذي دَعَوْتَ إليه وأقمتَه.. ونِعْمَ الصحابة أصحابكَ المجاهدون الأفذاذ، ونِعْمَ الأمة أمّتك، التي وَصَفَها رب العزّة، بأنها خَيْر أمةٍ أُخْرِجَت للناس.