الإخوان المسلمون في سورية

الحَجُّ مَدْرَسةٌ تربويةٌ إيمانية

(2من4)

ثانياً: التلبية: تأكيد على أنّ الحج هو لله عزّ وجلّ وحده لا شريكَ له
منذ قيامه بالإحرام ودخوله الحرم الشريف.. يبدأ الحاج بالتلبية ويبقى يلبي حتى آخر فترة الحج تقريباً (حتى رمي الجمرة الأولى).. فيرفع صوته بالنداء حتى يبحّ صوته، كما كان يفعل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما كان يأمرهم رسولنا وحبيبنا عليه أفضل الصلاة والسلام:
لبيكَ اللهمّ لبيك..
لبيكَ لا شريكَ لكَ لبيك..
إنّ الحمدَ والنعمةَ لكَ والمُلك..
لا شريكَ لك.
لنتخيّل المشهد العظيم:
كل المؤمنين المتوجّهين إلى بيت الله الحرام، من كل أصقاع الأرض وأركانها.. يهتفون بهذا  الهتاف الخالد، فيقولون ويعلنون:
جئناكَ ياربَّ الأرباب، ويا خالق الخلق كلهم، جئناكَ نُلَبّي نداءكَ، فأنتَ ربُّنا وحدكَ لا نعبدُ إلهاً ولا نُطيع ربّاً سواك، ولا نستمدّ منهج حياتنا إلا منك، ونُعاهدكَ على الـمُضيّ قُدُماً لتحقيق حُكمكَ وحاكميّتكَ في الأرض، وتنفيذ شرعكَ.. ونحمدكَ يا ربّ العزّة على كرمكَ معنا ومَنحكَ إيانا مَنهجكَ العظيم.. فهي نعمتكَ التي لا تُقَدَّر بثمن.. ونحن يا ربّ طوعُ أمركَ، ورَهنُ إشارتكَ، ننفّذ ما تأمرنا به من غير تلكؤٍ أو كللٍ أو مللٍ أو تقصير.. فأعِنّا يا ربنا على ذلك، فأنتَ خير مُعين!..
فالتلبية هتاف المسلم الخالد، الذي يعلن فيه المؤمن أنه ما أتى إلا لتنفيذ أمر إله السماوات والأرضين وحده.. وأنه قادم ليعلنَ عبوديته له وحده، في كل أمرٍ من أمور دنياه، فهو الخالق، وهو الحاكم وحده.. ويعاهده على الجهاد في سبيله وحده، بكل الأساليب الممكنة، حتى يتحقق هدف الإسلام في الأرض.. فتتحقق العبودية التامة في الأرض كلها لربّ الأرباب، الإله الواحد الأحد، الفرد الصمد.
ثالثاً: الطواف: حول قِبلة المسلمين ووجهتهم.. أينما كانوا في الأرض كلها
الكعبة المشرَّفة هي قبلة المسلمين التي يتوجّهون إليها في صلواتهم كلها، وذلك من أي مكانٍ في أصقاع الأرض وأقطارها.. هذه الكعبة الشريفة يأتي إليها الحجاج المؤمنون مُلَـبِّين، ليطوفوا حولها سبعة أشواط، متذكِّرين أنّ هذه الكعبة قد بناها لهم أبو التوحيد والعبودية لله عزّ وجلّ وحده: سيدنا إبراهيم، مع ابنه إسماعيل، عليهما السلام.. ليشعرَ المؤمن بمشاعر إيمانيةٍ خاصةٍ تجتاح كيانه، فهذه الكعبة ما بناها إبراهيم عليه السلام بأمر ربه سبحانه وتعالى.. إلا لتحقيق وحدة المسلمين في أقطار الأرض كلها، على هدفٍ واحد، وليعبدوا إلهاً واحداً لا شريك له، وينبذوا كل الآلهة والأرباب المزيّفين الحاليين والسابقين على مرّ التاريخ والعصور.
يطوف المؤمنون وهم يهتفون هتاف رسول الله صلى الله عليه وسلم:
بسم الله، والله أكبر..
اللهمّ إيماناً بك..
وتصديقاً بكتابك..
ووفاءً بعهدك..
واتّباعاً لسنّة نبيّك..
ثم يدعو كل منهم ما يخطر في باله من أدعية، متوجهاً بقلبٍ صافٍ نقيٍ إلى ربّ العِزّة جلّ جلاله، طالباً منه العفو والغفران، والتأييد والدعم في كل شؤون حياته.
يطوف المؤمنون وفق دائرةٍ لا تنتهي حتى تبدأ من جديد، مُعَاهدين ربَّ الأرباب جلّ وعلا بهتافهم المذكور، الذي يعني:
باسمك يا ربّ، يا أكبر من كل كبير، نُعَاهدك عهد الإسلام والإيمان، على أن نستمرّ معظم حياتنا بالحركة المستمرة والجهاد الدائم الذي يبدأ ولا ينتهي حتى تحقيق أهدافه، في تحرير الناس من العبودية لغيرك، وحتى يتهاوى كلُّ طواغيت الأرض، وينتقل الناس من عبادة الطغاة والعباد.. إلى عبادة ربِّ العباد والأرباب أجمعين وحده.. وسنورّث أهدافنا إلى ذرارينا التي ستأتي من بعدنا، لتستمرَّ -بعد رحيلنا عن هذه الدنيا الفانية- حركةُ الجهاد إلى يوم القيامة.. فيبقى كتابك الكريم هو الحاكم الوحيد الشامل لحياة البشر، تدعمه سنّة نبيّك وحبيبك محمدٍ صلى الله عليه وسلم.. يا رب الأرباب: نُعَاهدكَ على كل ذلك، عهدَ التصديق والوفاء والإيمان.
وقفة: تتمّات الطواف:
1- ثم يصلّي الحاجُّ المؤمنُ ركعتين عند مَقام سيدنا إبراهيم عليه السلام، باني الكعبة قبلة المسلمين، والـمُؤذِّن للناس بالحج، وداعيهم للقدوم إلى هذا اللقاء العالميّ الواسع من أقطار الأرض وأركانها كلها، ليُجَدِّدوا عهدهم عند بيت الله الحرام، بالاستمرار في الحركة والعمل والجهاد حتى تكونَ كلمة الله هي العليا، ويكون دينُهُ ومَنهجُهُ هو الـمُحَكَّم بين الناس، ويُزال كل طاغوتٍ في الأرض إلى يوم الدّين.
2- وينـزل الحاج بعد ذلك إلى بئر زمزم، ليَعُبَّ من مائها المبارك، ويغسل رأسَه.. فيتذكّر معجزة الله عزّ وجلّ في تفجير مياه هذه البئر، إكراماً للسيدة هاجَر زوجة نبينا إبراهيم عليه السلام، وإغاثةً لها ولولدها إسماعيل عليه السلام.. وما تزال هذه المياه المتفجرة متدفقةً منذ آلاف السنين.. تفجّرت في صحراء قاحلة، واستمرت، وستستمر بإذن الله.. فشرب منها ملايين الملايين من الناس.. وسيشرب منها ملايين أخرى، وأخرى.. يتذكّر الحاجُّ المؤمنُ بذلك كلّه، أنّ اللهَ سبحانه وتعالى قادرٌ على كل شيء، وهو وحده ناصر المؤمنين، وقاهر الجبارين مهما بلغت قوّتهم.. وكما تفجّر المستحيل بتفجير ماء زمزم واستمرار تدفّقه.. فسيبزغ فجر الإسلام والمسلمين من أعماق المحنة والإحباط.. وكما أغاث اللهُ عزّ وجلّ السيدةَ أم إسماعيل وولدها إسماعيل عليه السلام، في مكانٍ ووقتٍ لا يمكن فيهما –بمعايير البشر- أن تتمّ الإغاثة.. فهو سبحانه وتعالى سيُغيث المجاهدين في سبيله، بنصرٍ وفتحٍ من عنده، يتحقق من أعماق الـمُعاناة وحُلكة الظلام، مهما اشتدّ اسوداداً ومأساويّة.
*     *     *
يتبع إن شاء الله..

د. محمد بسام يوسف