الإخوان المسلمون في سورية

الحَجُّ مَدْرَسةٌ تربويةٌ إيمانية (4 من4)

 
سادساً: رَمي الجمرات: براءةٌ من الشيطان اللعين
يرتاح الحُجّاج المؤمنون المسافرون في (مِنى)، فهي مَحطّة تفصل ما بين مكان العهد مع الله عزّ وجلّ في عرفات.. وبقية أنحاء الدنيا التي سيُنَفَّذ فيها ذلك العهد الوثيق.
ومن (مزدلفة) يجمع المؤمنون الحُصَيّات التي سيرجمون بها إبليسَ اللعين، زعيم الطواغيت وربّهم المزيَّف الأكبر.. وبذلك، فالمؤمنون بعد أن عاهدوا الله سبحانه وأعطوه الميثاق الغليظ بأن يعبدوه وحده لا شريك له.. يتوجّهون لتأكيد عهدهم وميثاقهم الغليظ.. يتوجّهون للبراءة من الشيطان الرجيم، والوسواس الخنّاس، الذي يفتن الناس ليحرفهم عن طريق الحقّ.
من بوابة (مِنى)، ما بين مكان العهد المبرَم مع الله عزّ وجلّ.. وأمكنة تنفيذه.. يلج المؤمنون مؤكّدين طاعتهم لله جلّ وعلا القاهر الحق، ومتهيِّئين لبراءتهم من الشيطان الرّجيم زعيم الباطل، وذلك بجمع الحُصَيّات التي سيرجمونه بها.
سابعاً: النَّحر: إراقةٌ للدم في سبيل الله سبحانه وتعالى وحده
يتوجّه الحجاج المؤمنون بعد ذلك إلى (المنحر)، ليُريقوا أغلى شيءٍ في الحياة الدنيا.. ليُريقوا الدمَ لله عزّ وجلّ.. رمزاً على أنّ الدماء أرخصُ من المبادئ والعقيدة، فدون إسلامنا ومنهجنا.. دماؤنا وأرواحُنا رخيصةً.. في سبيل الحيّ القيوم جلّ جلاله، وفي سبيل تحقيق منهجه وسلطانه العظيم في الأرض كلها.
ثم يتوجّهون إلى مكة ليطوفوا ويسعوا من جديد.. لتجديد العهد وتأكيده مع الله عزّ وجلّ، بأننا: على الحق سائرون، وإلى تحقيقه ساعون، وفي سبيلك يا ربَّ الأرباب مستمرّون، وعلى هَدْيِكَ ماضون.
ثامناً: العودة إلى (مِنى): استعداد لدخول أروقة الدنيا ودار الامتحان الكبير
ثم يتوجه الحجّاج المؤمنون إلى مِنى للإقامة فيها يومين أو ثلاثةً من أيام العيد.. وتلك فترة أكْلٍ وشْربٍ كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيها يتحلّل المؤمنون من ثياب الحج الخاصة، ويرتدون ثيابهم العادية التي سيعيشون بها في دنياهم.. وفيها يأكلون من لحوم الأضحيات التي أراقوا دماءها لله عزّ وجلّ، وفيها يتعارفون، ويستعدّون لدخول أبواب الدنيا المختلفة، برفض مناهج الشيطان وتلامذته من الطواغيت والأرباب الـمُزَيَّفين المتسلِّطين على رقاب الناس.. وذلك برجم زعيم الباطل إبليس اللعين، سبعاً.. سبعاً، في كل يومٍ عند العقبات الثلاث.. يرجمونه وهم يصرخون:
(باسم الله، والله أكبر).
فيؤكّدون بذلك أن: (باسم الله) نرميكَ ولن نعملَ بما تُوحِيه إلينا أو توسوس به أيها الباطل اللعين.. (والله أكبر) منكَ ومن كيدكَ أيها الـمُزَيَّف الرجيم.
بعد ذلك يغادرون إلى مكة ليطوفوا فيها طواف الوداع، مؤكّدين عهد الله للعمل الدائب في سبيله.. مودِّعين بيتَه الحرام ورمزَ توحيده، ثم متوجِّهين من جديدٍ إلى بلادهم وديارهم المتناثرة في كل أرجاء المعمورة، حمُاةً لدينه، ودُعاةً لمنهجه، وجنوداً لإعلاء كلمته في كل بلدٍ وركنٍ من بلاد الأرض وأركانها.
تاسعاً: زيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي بلَّغ الناسَ دينَهم
إنها المحطة المهمة التي يتوقّف فيها الحاجّ في ذهابه وإيابه، أو في أحدهما.. فيزور مسجدَ الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة.. يزور المجاهدَ الأولَ الأعظمَ الذي بَلّغ رسالةَ ربه للناس، وجمعهم عليها، فبلغت ثمار جهده وجهاده أقاصي الأرض، فقضى على كل طاغوتٍ يحكم بغير ما أنزل الله عزّ وجلّ، وأزاح كلَّ ربٍ مُزيَّفٍ يستعبد الناس، ويُذِلّهم، ويمتهن كرامتهم، وينتهك حُرّيّتهم.
وهناك في مسجده صلى الله عليه وسلم.. يجد المؤمن إلى جانبه صاحبَيْه الحبيبَيْن، أبا بكرٍ، وعمر بن الخطاب.. رضوان الله عليهما، والخليفتَيْن الراشدَيْن اللذَيْن سارا على نَهجه وخُطاه عليه الصلاة والسلام، ونَفّذا أوامره وشرعه في الأرض، إلى أن صارَ الإسلام ظاهراً على كل المناهج البشرية الوضعية الضالّة، فاندثر الطغاة مستعبدو الأمم والشعوب، وتحرّر الناسُ بالإسلام في عهدَيْهما رضي الله عنهما.. من طواغيت الأرض الضالّين المـُضِلِّين.
عاشراً: العودة إلى الوطن، بمغفرةٍ ربّانيةٍ وعزيمةٍ لا تلين
يعود الحجاج المؤمنون إلى أوطانهم المختلفة، وفي طريق عودتهم كلما ارتقوا جبلاً، هتفوا:
لا إله إلا الله وحده لا شريك له (الهدف)، له المُلْكُ وله الحمدُ، وهو على كل شيءٍ قدير (لا يفلت من حسابه أحد من الخَلْق).. آيبون تائبون (من تقصيرنا الذي مضى)، عابدون ساجدون لربنا حامدون.. صَدقَ الله وَعْدَه (وسيصدق حتماً في كل حين).. ونَصَر عبدَه (وسينصر عباده دائماً).. وهَزَمَ الأحزابَ وَحْدَه (وسيهزمهم في كل وقتٍ وعصرٍ وحين).
النتيجة الإجمالية من الحجّ وشعائره
لقد فرض الله عزّ وجلّ الحجَّ مرةً واحدةً في العمر، وسنّ رسولنا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم الحجَّ مرةً كل خمس سنوات، ويأتي موسم الحجّ بعد موسم الصيام وشهر رمضان بقليلٍ من الوقت، الذي فيه يستعدّ المسلم استعداداً إيمانياً راقياً طوال شهرٍ كامل، فيجد نفسَه قريباً من ربّه سبحانه وتعالى، مُتَهَيِّئاً نفسياً وإيمانياً للحجّ وشعائره.
في الحجّ.. نجد أنفسنا أمام تحرّكٍ شعبيٍّ جماهيريٍّ واسع، على مستوى الإنسانية كلها.. يهتف ملايينه بهتافٍ واحدٍ وشعارٍ واحد: (لبيكَ اللهم لبيك..).. فيه يجتمع الناس طائفين وساعين وواقفين بعرفة ومُتَعارفين وراجمين للشيطان الرجيم.. مُعاهدين إلهاً واحداً هو الله جلّ وعلا، على المـُضِيِّ في طريقٍ واحد، لتحقيق هدفٍ واحد، والاستقامة على منهجٍ واحد، والجهاد في سبيل تحرير الإنسانية، ونقل شعوبها من عبادة العباد إلى عبادة رَبِّ العباد، حتى يسجدَ سكانُ الأرض كلهم لله عزّ وجلّ وحده، وحتى تُزال الطواغيتُ في كل مكان، فيتحرّر الناس من كل بغيٍ وطُغيان، حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله جبّار السماوات والأرض.
في الحجّ.. يشعر الإنسان المؤمن بعزّة المبدأ، وعزّة الانتماء، وعزّة الأمة التي كانت خير أمةٍ أُخرِجَت للناس.. وفيه.. تزول الحدود في نفس المؤمن، وتصبح نظرته إنسانيةً واسعةً عالميةً شاملة، بدل أن تكونَ محلّيةً محدودةً ضيّقة.. فيتحرّر من عُقدَته المحلّية الخاصة أمام الحلّ العام الشامل للعالَم الإسلاميّ والعالَم كله.. فينقلب يَأسُهُ أملاً، وإحباطُهُ هِمَّةً، وأملُهُ الضعيفُ أملاً عظيماً.. ويقتنع بأنّ الدنيا كلها هي الميدان الحقيقيّ لجهاده ودأبه ودعوته في سبيل الله عزّ وجلّ، فإذا ما سُدَّ من أمامه منفَذ أو ميدان، فُتِحَت له منافذ وميادين أوسع وأرحب على مستوى الأرض كلها.. والثمار ستكون على مستوى الإنسانية كلها.. لله سبحانه وتعالى، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولدينه العظيم القويم، ولأمّة الإسلام والمسلمين.. مهما تباعدت المسافات.. فلا شكّ أنّ الله عزّ وجلّ سيُظهِر دينَه على الدين كله، ولو كره الكافرون.
((يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)) (الصف:8)
*     *     *
تمّت.

د. محمد بسام يوسف